نظرات في السيرة ، الإذن بالقتال .. تحول فكرى ومنعطف تاريخى - فِرْقَةِ الصَحَابَة -


نظرات في السيرة ، الإذن بالقتال .. تحول فكرى ومنعطف تاريخى

بقلم أ. خلف عبد الرءوف المحامى

ليهلكن القوم: عندما خرج الصديق مرافقا ً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) مهاجرا ً من مكة إلى المدينة.. توقع أن ينزل بمكة وأهلها من الهلاك والدمار مثلما أنزل الله بالأمم السابقة من دمار وهلاك مستأصل.

فلقد تشكلت مفاهيم الصديق وثقافته طيلة ثلاثة عشر عاما ً هي عمر الدعوة الإسلامية بمكة من خلال مئات الآيات القرآنية التي أوردت أخبار الأمم السابقة.

تجربة تكاد تكون واحدة تتكرر مرات ومرات، فلا تجد من يعقل أو يتدبر، اللهم إلا القليل من أتباع الأنبياء والرسل.

رسول وكتاب ومعجزات تقابل بالإعراض والتكذيب ثم يأتي مشهد النهاية نجاة للمؤمنين المستضعفين وهلاك مستأصل للضالين المكذبين.

لقد حان الآن مشهد النهاية.. وها هو الفصل الأخير من القصة.. قصة محمد (صلى الله عليه وسلم) مع قريش تكتب سطورها الأخيرة.

فقد نجا الله المستضعفين من المؤمنين بالهجرة إلى المدينة.. وها هو الرسول الأعظم يخرجه قومه متخفيا ً تحت جنح الظلام.. متسللا ً من بين نصال أربعين سيفا ً مشهرة.. تترصد ببابه تراقب خروجه حتى تنقض عليه بضربة رجل واحد.

ولكن سبق قضاء الله، على من حسبوا أنهم سبقوا أو كانوا معجزين، ومن غالب الله غلب.

التفت الصديق إلى القرية الظالم أهلها يراقب مشهد النهاية، مشهد هلاك قريش، ترى بيد أى جند من جنود الله سيكون فناء القوم.

لربما يأتيهم ملك الجبال فيطبقها عليهم أو تصخ آذانهم الصيحة فلا صريخ لهم، ولات حين مناص .

مشاعر وأحاسيس كثيرة تلابس القلب في مثل هذا المنعطف التاريخي الذي له ما بعده ما بين الفرحة بالنجاء.. والشكر على نعمة الهداية.. والشفقة ربما ببقية الأهل والعشيرة الذين أعماهم الجهل وغرهم بالله الغرور.

فالمؤمن في النهاية إنسان.. نعم قلبه معلق بالله يحب من آمن بالله ورسوله ويبغض من كفر.

ولكن تبقى لأواصر الرحم ولحمة النسب وذكريات الإلف للديار والوطن مكانها في القلب ألم يقل إبراهيم لأبيه . " لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ" الآية ـ الممتحنة ـ آية 4

وقال نوح " َقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ". هود ـ الآية 45

وقال الرسول الأكرم ـ كالمعتذر لمكة على خروجه منها ـ " والله انك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت" .(1)

عبر الصديق رضي الله عنه عن كل هذه المفاهيم والمشاعر وهو يرقب الديار ديار مكة.. وقد تباعدت بقوله الذي رواه عنه ابن عباس قال : لما خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم.. إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن القوم فنزلت " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا"

قال أبو بكر: فعلمت أنه سيكون قتال "

قال ابن عباس: وهي أول آية نزلت في القتال " .(2)

ثقافة جديدة:

جاءت الآيات تحويلا ً لنظره وبداية لتشكيل ثقافة جديدة على الصديق لم يألفها من قبل.. فالنصرة من الآن..

فصاعدا ستكون من الله لمن يدفع بسيفه وينصر برمحه ويفدي بما له ونفسه " وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ " الحج – الآية 40

جاءت الآيات لتبدل مفاهيم الصديق وتبدل الوقائع المرتقبة للقصة لتمتد فصولها عبر أجيال وأجيال.. فمشهد النجاة للنبي والذين آمنوا معه ليس هو المشهد قبل الأخير من الفصل الأخير.

فهناك فصول سيطوى هذا الجيل الذي شرفه الله بصحبة نبيه صفحات منها .. وستبقى فصول وصفحات أخر تكتب سطورها الأجيال التالية.. تكتبها بنصال السيوف ومداد الدم والتضحية بالمال والنفس .

" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" سورة الحج - الآيات 39: 41

ففي الآية تصريح وإذن ليس فيه فرض أو وجوب وإنما فرض الجهاد بعد ذلك بقوله تعالى: " وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ " الآية - البقرة 190

ففي الآيات إنذار لقريش ومن على شاكلتها من الذين أغراهم صبر المسلمين وكفهم أيديهم عن مدافعة المعتدين ونهي الله لهم ورسوله عن القتال.

وبيان للذين تجرئوا على انتهاك حرمات المسلمين .. أن هذا زمان قد مضى وأنهم من الآن فصاعدا مؤاخذون بما يصنعون.. وبما صنعوا وأن سياطهم وحرابهم لن تجد بعد اليوم ظهورا ً عارية وأيد مغلولة.. ولكنه الدفع والقود ، وإنها لدروع وتروس واقية.. وسيوف وحراب ومنتقمة.

إنها مرحلة جديدة وصورة أخرى من دفاع الله عن الذين آمنوا ومنعطف في تاريخ البشرية.. فقد مضى زمان إهلاك الأمم المكذبة الباغية بعذاب مستأصل إلى غير رجعية.

فلا طوفان كالذي أغرق قوم نوح .

ولا طود من المياه عظيم كالذي أغرق فرعون وقومه.

ولا ريح صرصر عاتية كالتي أهلكت عادا .

ولا صيحة كالتي أبادت ثمود.

ولا خسف وأمطار من حجارة أو طيرا أبابيل .

فقد عرض على نبي الرحمة شئ من ذلك يوم الطائف.. يوم قام يدعوا أهل الطائف إلى الإيمان فلم يجيبوه أو يتركوه يرحل عنهم آمنا.. بل رجموه بالحجارة حتى أحدثوا به شجاجا ً وأدموه إدماءا .

فجاءه ملك الجبال يعرض عليه إهلاك القوم قائلا ً : لو شئت أطبقت عليهم الأخشين - أي الجبلين - إنه عرض بالإبادة رفضه نبي الرحمة قائلا ً لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله .

فلم يكن عبثا ً أن قدم الله لقوله " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ" بقوله " ِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ" سورة الحج – الآية 38

فأذن الله للمؤمنين بالجهاد في سبيله هو دفاع من الله عن الذين ءامنوا.

لقد دافع عنهم في مكة وهم عزل مستضعفين.. فعجزت كل وسائل البطش والتنكيل عن إبادة خضرائهم أو استئصال شأفتهم .

ودافع عنهم حين أعمى أبصار القوم وهم شاكوا السلاح عن رؤية رسوله (صلى الله عليه وسلم) يسري بين صفيهم .

ودافع عنهم حين استودعهم في بلاد الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد .

ودافع عنهم حين فتح لهم قلوب الأنصار من الاوس والخزرج فأقام لهم دولة ووطأ لهم وطنا وأمن لهم مأوً من غير حرب ولا ضرب .

إنفاذ الأمر بالجهاد يكون وفقا لمعطيات الواقع:

وبرغم صدور الإذن بالقتال والرخصة ثم فرضه بعد ذلك وبرغم وجود الأسباب والمبررات القوية لدى المسلمين لمحاربة قريش - التي كانت بمثابة حيثيات لهذا الإذن " بأنهم ظلموا" اخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق.

برغم ذلك فأحسب أن المسلمين كان من الممكن ألا يسلطوا على قريش سيف انتقامهم.. قصاصا ً لما مضى.. لو أن قريشا ً ومن والاها كفوا أيدهم وألسنهم وأعرضوا عن تأليب القبائل على المسلمين بعد هجرتهم .

فالمتتبع لسياسات الحرب والسلام التي انتهجها النبي (صلى الله عليه وسلم) مع أعدائه يمكن أن يخرج بهذه النتيجة.

فحرص النبي (صلى الله عليه وسلم) ومن معه على توطيد دعائم دولتهم الوليدة وبناء أركانها ونشر رسالة الإسلام والدعوة إليه والتي أسفرت عن فتح المدينة دون إراقة دماء كان سيشغلهم عن تصفيه حساباتهم القديمة مع قريش .

فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) على مدى سني مقامه في المدينة .. وبرغم وجود آيات فرض الجهاد ووجوبه.. تواقا ً إلى وقف نزيف الدماء حرصا ً على توفير حالة من الاستقرار والأمن.

لذلك عقد معاهدات حسن الجوار والصلح مع قبائل اليهود.. ومدلج.. وجهينة ..وبني ضمرة وغيرهم حتى مع قريش نفسها عقد معها صلح الحديبية بعد ذلك بسنوات.. كان فيها أكثر نفرا ً وأعظم جمعا ً وأشد عتادا ً من حاله في بدء قيام دولته بالمدينة عقب هجرته.. وقبل توطيد وترسيخ دعائم الدولة الوليدة.

وكانت قريش في موقف أقل قوة وأذل من موقفها الآن، قد أكلتها الحرب وأنهكتها تبعاتها وتكاليفها، ومع ذلك جنح النبي إلى مصالحتهم وقدم من التنازلات ما أدهش أصحابه وأذهلهم حتى كادت الريب أن تهلكهم، وذلك في مقابل وقف الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس فلا إسلال ولا إغلال.. ولكن عيبه مكفوفة .

فمن باب أولى الكف في هذه المرحلة الصعبة من تأسيس الدولة والمخاض الأليم.. والمهمة الشاقة التي كان المسلمون في المدينة بصددها وهم يوطنون المئات.. وربما الآلاف من اللاجئين من المؤمنين الفارين بدينهم من شتي القبائل.. فيؤمنون المأوى والمأكل والملبس لهذه الأفواج من المهاجرين في أرض فقيرة بطبيعة حالها فليس لأهلها مهارة قريش وخبرتها الواسعة في التجارة.. ولا حجيج يفدون إليها فتنشط بهم حركة البيع والشراء.. فضلا عن ميراث الحروب الأهلية الطويلة بين الأوس والخزرج والتي أتت علي ما بقي لأهل المدينة من مال أو متاع .

قريش تدفع باتجاه الحرب:

كل هذه الظروف وتلك الدوافع كانت ووفقا ً لسياسات النبي (صلى الله عليه وسلم) وخطته تدفع في اتجاه التهدئة والتجاوز عن آلام الماضي .

ولكن الذي حدث أن قريشا ً ومن سار على نهجها من الأعراب ومشركي المدينة كان لهم رأي آخر وسياسة أخرى.. كانت تدفع في اتجاه الحرب وتجعل من الركون إلى الموادعة.. والسلام سبيلا لاستئصال الفئة المؤمنة وتدمير الدولة الوليدة وتصفية الوجود الإسلامي.. وهو خط أحمر لا يمكن السماح به بحال أو القعود عن دفعه مهما كانت التكاليف والعواقب.

روى أبو داود في سننه أن قريشا ً كتبوا إلى عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم الخزرج .. وكان إذ ذاك مشركا .. " أنكم آوتيم صاحبنا، وإنا نقسم بالله، لتقاتلنه، أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم". (3)

يقول عبد الرحمن بن كعب " فلما بلغ ذلك عبد الله ابن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فلما بلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) لقيهم.. فقال " لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم "

فلما سمعوا ذلك من النبي (صلى الله عليه وسلم تفرقوا) .(4)

كف ابن أبي شره عن المسلمين ظاهرا ً لما رأى من عدم جدوى المواجهة المسلحة .

فمن سيقاتل ؟

الأوس والخزرج ، وهم أنباؤه وبنو عمومته .؟

ومن سيقاتل معه ؟

شراذمه أقلة أذلة مازالوا في كهوف الوثنية.. يخرجون إلى نور الإسلام واحدا ً بعد الأخر.. رغبا ً أو رهبا ً حتى ابن سلول نفسه أظهر الإسلام بعد بدر مع بقائه على الكفر باطنا ً متخذا ً من الإسلام ستارا ً للدس والتأمر مع قريش وقبائل يهود .

يقول العلامة المنصور فوري في كتابه رحمة للعالمين " إن قريشا قد أرسلت إلى المسلمين تقول لهم " : "لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خصراءكم في عقر داركم "

يقول أبي بن كعب " لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه المدينة وءاواهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه "(5)

لم تقف قريش عند ذلك بل اتخذت موقفا ً تضرب به كل ما استقر في أعراف العرب ووجدانهم من تعظيم لحرمة البيت وحصانة لمن جاءه حاجا ً أو معتمرا ً حتى إن الرجل كان يرى قاتل أبيه يطوف بالبيت.. لا تمتد إليه يده بأذى تعظيما ً لحرمة البيت وشعائر الله.. إلا مع المسلمين.. فلا حرمة لدين ولا قداسة لشعيرة .

فقد روى البخاري في صحيحه " أن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمرا ً فنزل على أمية بن خلف بمكة.. فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت.. فخرج به قريبا ً من لقف النهار فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا معك ؟.

فقال: هذا سعد

فقال له أبو جهل: لا أراك تطوف بمكة آمنا وقد آوتيم الصباة.. وزعمتم أنكم تنصرونهم.. أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما ً.

فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه.. طريقك على أهل المدينة " (6)

يعني طريق تجارة قريش إلى الشام والذي يمر بالمدينة .

إن الركن الأعظم في الإسلام، وهو ركن الحج، فضلا ً عن العمرة، لا سبيل إليه في ظل سيطرة قريش على البيت حتى ولو في إطار من حرية العقيدة والنسك التي تتيحها قريش للجميع.. بوصفها سدنة البيت وجيرانه .

كان لابد من لجوء المسلمين إلى إظهار القوة والاستعداد للجهاد إرهابا ً وتخويفا ً وردعا ً للأعداء من ظهر منهم أو خفي " وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ " الأنفال – الآية 60

وكان لا بد من تطويق مقدرات قريش الاقتصادية ومن ثم إضعاف قدراتها العسكرية بقطع طريق تجارتها إلى الشام أحد أهم مصادر قوة قريش الاقتصادية.. أو بالأقل التلويح بذلك من قبيل ممارسة الضغوط حتى تفكر قريش ألف مرة قبل أن تنفذ تهديداتها بغزو المدينة وإبادة المسلمين .

لقد كان على المسلمين حمل تهديدات قريش محمل الجد.. بخلع أنيابها ونزع مخالبها أو تهديدها عمليا ً بإمكان ذلك .

وبعض المستشرقين من المغرضين أو السذج يتجاهل أو يغفل عن هذه الحقائق التاريخية.. ومن ثم يدعي أنه لم يكن هناك أي مبرر أخلاقي لشن الحرب واعتراض القوافل التجارية من قبل المسلمين.. بل إنهم يعدون ذلك نوع من الهمجية وقطع الطريق وعمل من أعمال الإرهاب.. بل إن كثيرا ً من الباحثين المسلمين يحار في الرد على هذا الاتهام للنبي (صلى الله عليه وسلم) وصحبه بأنهم كانوا البادئين بالحرب على قريش واستفزازها بتكرار مهاجمة قوافلها واعتراض طريق تجارتها.. فيذهبون في تبرير ذلك بأنه كان نوع من القصاص لما حدث لهم في مكة من إيذاء وتعذيب ومصادرة.. ويغفلون عن هذه الحقائق التي ذكرنا سلفا ً والتي تجعل من خيار الحرب وخوض المعركة ضد قريش خيارا ً أخلاقيا ً وحيدا ً .. لا بدافع الانتقام وحده.. ولكن دفعا ً لهجوم قرشي وشيك .

لذلك فقد اقتصرت عمليات قطع الطريق على قوافل قريش فقط دون غيرها من القبائل التي كانت تمر بقوافلها على المدينة.

تظاهرات مسلحة واستعراض للقوة:

ونظرة عجلي لأحوال هذه السرايا والغزوات التي سبقت بدر تؤكد صحة ما ذكرنا.. فمجمل هذه السرايا والغزوات - التي سبقت غزوة بدر - كان ثمانية.. منها أربع سرايا وأربع غزوات.. كانت كلها تهدف إلى اعتراض طريق تجارة قريش فيما عدا غزوة سفوان وسنذكر أحوالها باختصار:-

1- سرية سيف البحر:-

في رمضان من العام الأول للهجرة.. مارس 623م .

وكان على رأسها حمزة بن عبد المطلب.. وبعثه النبي (صلى الله عليه وسلم) في ثلاثين رجلا ً من المهاجرين لاعتراض عير لقريش قادمة من الشام.. على رأسها أبو جهل في ثلاثمائة رجل من المشركين .. فالتقوا حتى إذا اصطف الفريقان للقتال.. سعي بينهما مجدي بن عمرو الجهني.. وكان حليفا ً للفريقين حتى حجز بينها فلم يقتتل الفريقان (7).

2- سرية سعد بن ابي وقاص:-

قال ابن هشام (8): ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة، ومعه ثمانية من المهاجرين وأمرهم ألا يجاوزوا الجرار من أرض الحجاز، فلم يلق أحدا ً ثم عاد . (9)

3 – سرية عبيدة بن الحارث:-

وهي عند ابن هشام (10) أول سرية أو راية عقدها النبي (صلى الله عليه وسلم) ، في ستين من المهاجرين.. كان من بينهم سعد بن أبي وقاص.. ولقي جمعا ً من قريش ولم يحدث بينهم قتال غير أن سعدا ً رمى فيها بسهم.. وكان أول سهم رمي في الإسلام.. ثم انصرف القوم.. وكان علي رأس المشركين عكرمة بن أبي جهل . (11)

4- غزوة ودان أو الأبواء:-

وكانت في صفر من العام الثاني للهجرة.. أغسطس 623 .

وكانت أول غزوة يغزوها النبي (صلى الله عليه وسلم) وفيها خرج النبي يريد قريشا ً.. فلم يلق كيدا.. وفي هذه الغزوة عقد حلفا ً مع بني ضمرة وقد عقده مع سيدهم مخشي بن عمرو الضمري (12)

وقد ذكر القسطلاني والسهيلي ما جاء في كتاب النبي (صلى الله عليه وسلم) لبني ضمرة ونصه " بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا كتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لبني ضمرة بأنهم آمنون على أنفسهم وأن النصر على من رامهم.. على ألا يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة.. وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله) . (13)

5 – غزوة بواط:-

في شهر ربيع الأول 2هـ.. سبتمبر 623م.

خرج فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) في مائتي رجل من أصحابه يعترض عيرا ً لقريش.. فيها أمية بن خلف ومائة رجل من قريش وألفان وخمسمائة بعير.. فلم يلق كيدا ً وعاد دون قتال (14)

6 – غزوة العشيرة:-

خرج فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مائة وخمسين.. وقيل مائتين من أصحابه يعترضون عيرا ً لقريش ذاهبة إلى الشام في جمادى الأولى وبقي هناك أياما ً من جمادى الآخرة.. نوفمبر وديسمبر 623م

وهي نفس العير التي خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) لاعتراضها بعد ذلك في رمضان العام الثاني حين عودتها وكانت سببا ً في غزوة بدر. (15)

وفاتته العير وفي هذه الغزوة حالف بني مدلج وحلفاؤهم بني ضمرة .

7 – غزوة سفوان:-

وذكر المباركفوري أنها كانت في ربيع الأول سنة 2هـ سبتمر623م أي قبل غزوة العشيرة.. وعند ابن إسحاق أنها كانت بعد عودة النبي من غزوة العشيرة بأيام قلائل لا تبلغ العشر.

إذ أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة (المراعي) ونهب بعض المواشي وفر.. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إليه في سبعين رجلا من أصحابه حتى بلغ واديا ً يقال له سفوان من ناحية بدر ولم يلق قتالا ً وهي غزوة بدر الأولى .(16)

8 – سرية نخلة:-

وكانت في شهر رجب 2هـ .. يناير 624م فقد أرسل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عبد الله بن جحش الأسدي على رأس اثني عشر رجلا ً من المهاجرين.. وكتب له كتابا ً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه.. فلما فتح الكتاب وجد فيه " إذا نظرت في كتابي هذا.. فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم".

فقال " سمعا وطاعة ومضى حتى نزل نخلة وهي موضع بين مكة والطائف.. فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا ً وأدما ً.. وكان على رأسها عمرو بن الحضرمي ونفر قليل من قريش.

اجتهاد خاطئ واستنكار نبوي:

تشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام.. وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم.. ثم أجمعوا على ملاقاتهم.. فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله.. وأسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة.. والحكم بن كيسان.

فلما قدموا المدينة.. أنكر عليهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما فعلوه وقال لهم " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام" ووقف العير والأسيرين ولم يأخذ من ذلك شيئا ً حتى سقط في أيدي عبد الله بن جحش وأصحابه وظنوا.. أنهم قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . (17)

وهذا الذي حل بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه من غضب لما صنع إخوانهم هو الشعور الطبعي.. ورد الفعل الملائم لما تكنه صدورهم من إيمان بالله.. وتقديس لحرماته.. وتعظيم لشعائره.. فهي من تقوي الله " ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ" الحج – الآية 32

" ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ" الحج - الآية30

فتعظيم الحرمات في قلوب المسلمين خير من المال.. وإن كان استردادا ً لحق مسلوب.. وخير من قتال الأعداء أو قتلهم ولو كان قصاصا ً لدم مسفوح.

وهل تجرع المسلمون كؤوس العذاب مترعة إلا فداءا ً لتك الحرمات؟

وهل هجروا الدار والأوطان وهي أحب البقاع إليهم إلا دفاعا عنها؟

دموع التماسيح :-

وقد استغلت قريش وأذنابها تلك السقطة.. لتسلق المسلمين بألسنة حداد.. وقد خلعت على سوءات كفرها مسوح التقوى.. وراحت تتباكي على الحرمات المنتهكة.. وراحوا يقلبون الأكف.. ويبدون الدهشة.. والعجب لذلك النبي الذي.. على حد قولهم.. استحل وأصحابه حرمة الشهر الحرام فسفكوا فيه الدماء.. وأخذوا فيه الأموال.. وأسروا فيه الرجال.. حتى حار ضعفاء المسلمين المعتقلين رغما ً عنهم في البلد الحرام المعذبين المضطهدين حتى الثمالة.. حاروا بحثا ً عن مبرر لما حدث.. فكانوا يقولون دفاعا ً عن عبد الله بن حجش وإخوانه:"إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان" .

إنها مسرحية هزلية وتمثيلية وقحة ودعابة فجة.. لم تزل دينا يدين به صيادوا المياه العكرة إلى يومنا هذا .

فلم تزل الذئاب الوالغة في أنهار الدماء العابثة بأنيابها في أحشاء الضحايا الأبرياء تذرف الدمع سخينا ً علي حية رقطاء شاردة.. أصابها حجر قذفه طفل ذبيح هنا.. أو سهم رمي من يد شلاء هناك فأهلكها .

وكأن الذي أريق عل بطحاء البلد الحرام وفي الشهر الحرام طيلة عشرة أعوام مضت كان من عصير الرمان.

وكأن الذي كوى أجساد المسلمين وأحرقها حول الكعبة هي نار الهوى ولواعج الوجد .

إنها نكات سخيفة أطلقتها قريش ومازال خلفاؤها يطلقونها حتى الآن .

فلما اشتد الأمر على المسلمين نزل فرجهم من عند الله تعالي " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ" الآية البقرة –217

إنه العدل والإنصاف.. نعم ما فعله أصحاب عبد الله كان كبيرا ً ولكنها هنة تقي .. وعثرة صالح اجتهد فلم يوفق وأراد الحق فلم يصبه.

أما أنتم يا أهل الكفر يا من عمدتم إلى الباطل فأصبتم منه حتى اتخمتم فليس لكم أن تتكلموا عن الحرمات أو تدعوا دفاعا ً عن المقدسات.. وأنتم الذين قتلتم وصددتم عن سبيل الله.. وعذبتم وفتنتم المسلمين في دينهم.. وما تزالون تقاتلونهم حتى تردوهم عن دين الله الذي تدعون الغضبة له والحزن على حرماته .

فإن كان بعض المسلمين قد أخطأ.. فقد ارتكبتم ومازلتم ترتكبون الخطايا.. وإن كان أحدهم أو بعضهم قد أتى كبيرا ً.. فقد أتيتم من الكبائر أفحشها ومن الجرائم أبشعها .

فلما نزلت هذه الآيات قبض النبي (صلى الله عليه وسلم) العير وقبل الفداء في الأسيرين.. غير أن عبد الله ومن معه لم يقنعوا بذلك نعم أصابوا غنيمتهم لكنهم ما خرجوا للغنيمة.. وإنما خرجوا ابتغاء الأجر من الله تعالى ورجاء رحمته.

فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا.. أي هذه السرية.. غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين ؟

فأنزل الله عز وجل فيهم " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" البقرة – الآية 218 . فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء ). (18)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هـوامـش

(1) رواه الطبراني وأحمد وابن ماجه والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح

(2) أخرجه عبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد والترمذي– وحسنه– ، والنسائي، وابن ماجة والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبري، والحاكم - وصححه–، وابن دوية، والبيهقي في الدلائل – الدر المنثور في التفسير بالمأثور – للسيوطي .

(3) سنن أبي داود – باب خبر النضير، المباركفوري ص 227 .

(4) سنن أبي داود – باب خبر النضير، الرحيق المختوم ص 226،227

(5) .الرحيق المختوم – المباركفوري ص 229 .

(6) صحيح البخاري ـ كتاب المغازي 2/563 ، المباركفواري ص 228 .

(7) السيرة النبوية – ابن هشام – ج 2 – ص 631 –632 .

(8) السيرة النبوية – ابن هشام – ج 2 – ص 638 .

(9) ذكر المباركفوري أنهم كانوا عشرين من المهاجرين وأنها كانت لاعتراض عير لقريش.. وأنها كانت في ذي القعدة – الرحيق المختوم – المباركفوري ـ ص 232 ) .

(10) السيرة النبوية – ابن هشام – ج 2 – ص 627 .

(11) ذكر المباركفوري أن على رأس المشركين يومئذ أبو سفيان، وأنها كانت في شوال من السنة الأولى / ابريل ـ بعد حمزة، وعنده أيضا أن المشركين كانوا مأتين ( الرحيق المختوم – المباركفوري ـ ص 623 ) .

(12) السيرة النبوية – ابن هشام – ج 2 – ص 626 – 627 ) (ذكر المباركفوري أن عدة المسلمين يومئذ كانت، سبعين رجلا من المهاجرين ( الرحيق المختوم – المباركفوري ـ ص 232) .

(13) السيرة النبوية – ابن هشام – ج 2 – ص 636 .

(14) الرحيق المختوم – المباركفوري ـ ص 233 .

(15) المباركفوري – ص233 ، 234

(16) بن هشام ص 638 ، 639 ، المباركفوري

(17) زاد المعاد ـ لابن قيم الجوزية ص 130 ج2 ذكر بن هشام أن عدد المسلمين في هذه السرية كانوا ثمانية ج2 ص 639 ، وذكر أن الذي قتل عمرو بن الحضرمي هو وأقد بن عبد الله

(18)– بن هشام ـ ج 2 ـ ص 642 .

وفي المرة القادمة بإذن الله نستكمل تحول سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلي الحرب الدفاعية.. والتي استمرت من بدر وأحد حتى معركة الأحزاب.. وساهمت في الدفاع عن دولة الإسلام الوليدة وحتى ذلك لكم منا أجمل المنى.

0 التعليقات:

إرسال تعليق